دراسة نقدية وتحليلية لقصيدة "مرثيّات الأرق" للشاعر سعيد هجيري موسى

........***مرثيات الأرق***.....


أعرف أني تائه

 بك

أعصرك على أجساد الصبايا 

عرقا......وأنقفل 

وأعرف أني تائه

 إليك 

تعشقني المرايا 

يجرحني الحنين 

ولا أنذمل 

يا أنت 

أعرف أني تائه ابدا 

عنك

يا أنت 

تتقلبين بين غبار الذاكرة 

والموت 

أعرف أني تائه أبدا 

عنك 

كلما قلت أمر إليك

إني أبحث عن راهبة 

عن كاهنة 

عن قارئة فنجان 

تشرح لي سر البكاء 

داخل الكورال ابكي 

خارج البكاء ابكي 

قتلوني غير أني لم أمت 

وانبعثت مني أجنحة مسحورة 

طارت بها كل عصافير الكلام 

هاهنا أنا بين ركام العظام 

ورائحة امرأة شردت مع الغمام 

وثمة تاج يرفضه رأسك 

من يحمله غيري 

إذا بات كسيرا 

يا أنت شعري إليك 

كان عشق البحر 

وعشقي كان يشق العباب 

بربك عودي 

فإن القصيدة 

مذ غبت عنها 

على عتبة أولي العزم 

والعز هائمة 

ترفض الإياب

وترفضني ...

سعيد هجري موسى/ تامسنة


 العنوان: "مرثيّات الأرق"


العنوان في ذاته مفتاح تأويلي يفتح باب النصّ على معاني الانكسار والقلق الداخلي.

"مرثيات": تفيد البكاء والرثاء، وتستدعي نمطًا من الحزن المقدّس، وكأن الشاعر لا يرثي شخصًا، بل يرثي حاله الداخلي.

"الأرق": ليس أرقًا جسديًا فحسب، بل قلقًا روحيًا، تيهًا ذهنيًا يعيشه العاشق، فالعنوان يجمع بين فقد المعنى وغياب النوم وانطفاء اليقين.


 المقطع الأول:

"أعرف أني تائه بك

أعصرك على أجساد الصبايا عرقا......وأنقفل"


يبدأ الشاعر بوعي التيه، ويعترف منذ البدء أنه ضائع في ملامح المعشوقة.


المجاز المثير "أعصرك على أجساد الصبايا عرقًا":

هنا نرى صورة شهوانية رمزية، لكنه لا يقصد الخيانة بل انفجار الذكرى والحنين عبر أجساد أخرى، فهي حاضرة حتى في الغياب.


الفعل "أنقفل": يشير إلى الانغلاق على الذات، التوقف بعد التوهج، كأنه لا يلبث أن يبحث عنها في غيرها حتى ينكفئ على خيبته.


"وأعرف أني تائه إليك

تعشقني المرايا

يجرحني الحنين

ولا أنذمل"


الانتقال من "بك" إلى "إليك" يُظهر تطورًا في التيه: من حالة انصهار حسّي إلى حالة انجذاب روحي.


"تعشقني المرايا": المرايا مجاز للهوية، للنظر للذات، وهي تعشقه لأنه يحمل في وجهه أثرها وملامحها.


"يجرحني الحنين ولا أنذمل": بيت رائع يجمع بين الاستمرارية والألم الأزلي، فكأن الجرح حنين مستمر لا يُشفى.


 نداء العاشق ودوائر الفقد:

"يا أنت

أعرف أني تائه أبدا عنك

يا أنت

تتقلبين بين غبار الذاكرة والموت"


التكرار "يا أنت" فيه نداء شجَن وصلاة شعرية تتوسل الغائبة.


"تائه أبدا عنك": نفي نهائي للوصال، وكأن الفقد قدَر دائم.


"تتقلبين بين غبار الذاكرة والموت": المعشوقة لم تعد حية في حضوره، بل هي أثرٌ غابر، بين الغياب والنسيان، بين الموت والذكرى.


 أسطورة العاشق الباحث عن المعنى:

"إني أبحث عن راهبة

عن كاهنة

عن قارئة فنجان

تشرح لي سر البكاء"


هنا يتحول الشاعر من الحبيب إلى الباحث عن معنى البكاء.


راهبة، كاهنة، قارئة فنجان: ثلاثية أنثوية روحانية، تمثل المعرفة الغيبية والشفاء.


يطلب من الغيب تفسير الألم الذي لا يجد له منطقًا.


 الذروة النفسية والوجدانية:

"داخل الكورال أبكي

خارج البكاء أبكي"


مفارقة بلاغية رائعة: "داخل الكورال" و"خارج البكاء"

هو يبكي مع الجماعة ويبكي وحده، في كل حالاته، البكاء حاضر.


الكورال (جوقة الغناء): ترمز إلى حياة صاخبة يبدو فيها مندمجًا ظاهريًا، لكنه وحيد باطنيًا.


"قتلوني غير أني لم أمت

وانبعثت مني أجنحة مسحورة

طارت بها كل عصافير الكلام"


استعارة درامية مذهلة: قتل لكنه لم يمت، بل تحوّل إلى طائرٍ شعري.


"أجنحة مسحورة" و"عصافير الكلام": يرمز بها إلى الشعر، إلى الكلمات التي تحمل روحه المنكسرة وتطير بها بعيدًا.


 بين الرماد والأنوثة الضائعة:

"هاهنا أنا بين ركام العظام

ورائحة امرأة شردت مع الغمام"


"ركام العظام": دلالة على الموت الداخلي أو الخراب النفسي.


"رائحة امرأة": لا حضور حقيقي لها، فقط أثر.


"شردت مع الغمام": جميلة جدًا، تدل على ذوبانها في المجهول، في الغياب العلوي، كأنها سُرقت من بين يديه.


 خاتمة شعرية مدهشة:

"وثمة تاج يرفضه رأسك

من يحمله غيري إذا بات كسيرا"


استعارة فيها كِبَر العاشق، فهو يرى نفسه الأجدر بأن يحمل تاجها، حتى لو رفضته.


يظهر الشاعر هنا في قمة الكرامة الكسيرة: مستعد لحمل ما لا يريد سواه.


"يا أنت شعري إليك

كان عشق البحر

وعشقي كان يشق العباب

بربك عودي

فإن القصيدة مذ غبت عنها

على عتبة أولي العزم

والعز هائمة

ترفض الإياب

وترفضني ..."


هذه خاتمة متمردة، مؤلمة.


يؤنسن "القصيدة"، ويجعلها كائنًا هائمًا على "عتبة أولي العزم"، أي أنها في مقام الشرفاء العظماء لكنها ضائعة دونه.


هو لا يُرفض فقط من المرأة، بل حتى من قصيدته، من قلمه، من الشعر الذي لم يعد يحتمله.


 التقييم العام:

الأسلوب:

لغة متينة وعاطفية، مزيج من الغنائية العالية والرمزية الروحية.


استخدام مجازي كثيف، لكنه منضبط، لا ينفلت نحو الغموض المجاني.


البناء الفني:

لا يعتمد نظام القافية الصارم، بل شعر حر ينبض بالإيقاع الداخلي والتكرار المتزن.


القصيدة تحمل تصاعدًا دراميًا نفسيًا من التيه إلى التوسل إلى الفقد الوجودي.


الموضوع:

يتجاوز الغزل العادي إلى رؤية فلسفية للغياب، والشعر، والحب كقدر مأساوي.


 الخلاصة:

قصيدة "مرثيات الأرق" للشاعر سعيد هجيري موسى، هي تراتيل ضياع وجودي في حضرة أنثى غابت جسدًا وظلت أثرًا في كل تفاصيله.

وهو لا يرثيها، بل يرثي نفسه التائه فيها، ويعلّق المعنى بين أجنحة الكلمات الطائرة، يبحث عن كاهنة أو قصيدة تهديه الطريق، لكنها بدورها، مثله، ترفض العودة... وترفضه.


تنسيق التحليل بصيغة مقال أدبي مع حفظ الألقاب /..


تقديم:


تمثل قصيدة "مرثيّات الأرق" للشاعر سعيد هجيري موسى عملاً شعريًا غنائيًا وجوديًا، يتقاطع فيه الحزن العاطفي مع القلق الروحي، وتنبثق منه تأملات في الحب والفقد والهوية. إنها مرثية للذات التائهة أكثر من كونها مرثية لمحبوبة، وتفيض بلغة مشبعة بالرمز والمجاز، تحوّل التيه إلى طقس شعري عميق.


العنوان:


"مرثيّات الأرق" عنوان مكثف، ذو دلالة مركبة:


"مرثيات": تفيد الحزن، والرثاء، والتأبين، لكن دون موتٍ صريح.


"الأرق": حالة نفسية/جسدية من السهر والتوتر، توحي بالقلق المستمر، وهو هنا مجاز عن التوجس الروحي والعاطفي.

العنوان يُمهد لقارئ النص بدخول عالمٍ يتشابك فيه الحزن باليقظة المؤلمة.


تحليل المقاطع:


1. البداية والاعتراف بالضياع


أعرف أني تائه بك

أعصرك على أجساد الصبايا عرقًا......وأنقفل


الشاعر يقر بضياعه في حضور المعشوقة وغيابها.


الصورة "أعصرك على أجساد الصبايا عرقًا" توحي بأنه يبحث عن أثرها في أجسادٍ أخرى، لكنها لا تمنحه غير خيبة الانغلاق.


"أنقفل" تشير إلى الانغلاق النفسي بعد لحظة انفجار جسدي، وكأن المعشوقة تسكن في الآخرين ولا تتحقق.


2. المرايا والحنين


وأعرف أني تائه إليك

تعشقني المرايا

يجرحني الحنين ولا أنذمل


الانتقال من "بك" إلى "إليك" يعكس تحولًا من التورط الحسي إلى التعلق الوجداني.


"تعشقني المرايا": المرايا كرمز للذات، تشير إلى أن وجهه مشبع بصورتها، حتى باتت المرايا تهواه لأنها تشبهها.


"ولا أنذمل": الجرح أبدي، لا شفاء له، مما يعمّق من طبيعة الألم.


3. الغياب الأزلي


يا أنت

أعرف أني تائه أبدا عنك

تتقلبين بين غبار الذاكرة والموت


نداء "يا أنت" يتكرر كصلاة يائسة، والتوصيف "تائه أبدا عنك" يوحي باستحالة اللقاء.


"غبار الذاكرة والموت": رمزان للغيابين؛ المعنوي والجسدي، فكأنها معلقة في لا زمان.


4. البحث عن تأويل البكاء


إني أبحث عن راهبة

عن كاهنة

عن قارئة فنجان

تشرح لي سر البكاء


هنا تنقلب القصيدة إلى بحثٍ عن تفسير لوجعه، وكأن البكاء سر كوني يحتاج إلى تأويل صوفي.


يستدعي رموزًا أنثوية: راهبة، كاهنة، قارئة فنجان، وهن رموز للمعرفة الغيبية والعزاء الباطني.


5. الذروة الدرامية


داخل الكورال أبكي

خارج البكاء أبكي


مفارقة بلاغية تكشف أن البكاء صار كينونة، لا فعلًا. سواء داخل الجماعة أو خارجها، يظل البكاء قدره.


قتلوني غير أني لم أمت

وانبعثت مني أجنحة مسحورة

طارت بها كل عصافير الكلام


الشاعر يحوّل موته إلى انبعاث شعري.


"أجنحة مسحورة" ترمز للإلهام، و"عصافير الكلام" هي القصائد التي خرجت من رماد الجرح.


6. ركام الروح والأنوثة الطيفية


هاهنا أنا بين ركام العظام

ورائحة امرأة شردت مع الغمام


ركام العظام: استعارة للخراب النفسي.


رائحة امرأة: تشير إلى حضور أنثوي متلاشٍ، لا جسد له، إنما طيف عبق.


شردت مع الغمام: استعارة للحضور المنفلت، الذي لا يُمسك.


7. التاج المرفوض


وثمة تاج يرفضه رأسك

من يحمله غيري إذا بات كسيرا


التاج يرمز للمحبوبة، أو الحب، أو الكلمة.


يرفضه رأسها، لكنها لا تجد من يحمله مثل هذا العاشق الجريح، ما يمثل عزّة نفس مجروحة.


8. الختام الوجودي الشعري


يا أنت شعري إليك

كان عشق البحر

وعشقي كان يشق العباب

بربك عودي

فإن القصيدة مذ غبت عنها

على عتبة أولي العزم والعز هائمة

ترفض الإياب

وترفضني ...


يربط الشعر بالبحر: مَدٌّ، هيجان، وعشق أبدي.


"ترفض الإياب وترفضني": القصيدة ذاتها، التي كانت ملاذه، أصبحت طاردة له بعد غيابها، فكأن الحبّ حين يُفقد، يُفقد معه الشعر والمعنى.


التقييم الفني:


اللغة: فصيحة، شفافة، تحمل كثافة شعورية عالية، مشبعة بالاستعارات.


الأسلوب: غنائي حرّ، بعيد عن القافية التقليدية، لكن فيه إيقاع داخلي عميق.


الصورة الشعرية: تنبني على المجاز المركب والرمز الحلمي.


الثيمة: الحب الغائب، التعلق، التيه، فقدان الذات، البحث عن المعنى.


الخاتمة:


قصيدة "مرثيّات الأرق" هي نشيد العاشق الذي لم يعد له معشوق، وصلاة الشاعر الذي لم تعد له قصيدة. إنها عمل وجداني صوفي، يرتحل بين الحنين، والبحث عن حضورٍ أنثوي ضائع، والتمسك بما تبقى من الأثر.


يكتب سعيد هجيري موسى هنا مرثية الذات، لا المرأة، في لحظة افتقاد القصيدة لملهمتها، وافتقاد القلب لمأواه، فكانت "مرثيّات الأرق"، كما أراد لها، عتبة


تيه وأغنية بقاء.

 /سابرينا عشوش 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

رائعة الروح/للشاعر ...... أسمهان سعيد✍️

رائعة/كيف_تُسالِمُ_قاتِلَكْ/للشاعر المتمكن متولي عيسىٰ