بحث/الفكر الطائفي بين الضبط والانفلات .. د.علي أحمد

الفكر الطائفي بين الضبط والانفلات ..


                                    د.علي أحمد


جديد


يبدو أن مفهوم الفكر الطائفي في عمقه مايزال مفهوماً غامضاً ، لأن مقاربته تستدعي الابتعاد عن المسبقات الجاثمة على الايديولوجيات المعروفة في تعاملها مع القضايا الانسانية ، ولأن موضوع (الطائفية) لاشك بأنه يتم تناوله بكثير من التساهل والإهمال وحتى بالتجاهل والتهميش ، رغم أن تفشي الفكر الطائفي في هذه المرحلة موضوع يجب الانتباه إليه بكل تبعاته والإحاطة به كواقع اجتماعي موجود وفعلي حتى يتسنى محاصرته عملياً على أساس أن القاعدة المبدئية السليمة تفرض فهم هذا الفكر لاستيعاب مختلف طروحاته تمهيداً لمعالجتها . وإن الحديث النظري عن مفهوم (الطائفية) يشترط دراسة مكوناته الاقتصادية والاجتماعية دون التغاضي عن أي مكوِّن منهما ، لأنه باتت هناك طوائف ذات امتيازات هائلة مقابل طوائف يتعرض أبناؤها إلى اضطهادات غير محدودة . وكذلك طائفة يتم التعامل معها بتفضيلية ، واخرى تكون منبوذة ومقهورة على كل المستويات . والفكر الطائفي القائم على تجاوز الأُطُر الثقافية والاقتصادية ، لاشك بأنه عَرَضٌ مَرَضي ينسج وضعاً اجتماعياً يترتب عنه الانشغال بأشباه المشاكل وقضاياها . ومن هذا المنطلق تبدو (الطائفية) كمؤسسة تخالف المنطق المؤسساتي ، لأنها نوع من تضادات التنظيم المؤسساتي وعلى المستويين الوطني والإنساني ، والموازاة بين ماهو طائفي فيها وبين ماهو طبقي لايمكن الإنصاف بينهما لأن الفكر الطائفي يتعالى عن الفكر الطبقي دون أن يعني هذا إقصاءً لأي اعتبار اقتصادي في تحديد التجليات الطائفية ، خاصة ، كما هو الواقع الحالي الذي ترتبط فيه (الطائفية) بالسلطة ، بحيث لاتكون فيه الممارسة السياسية ممارسة ذات أبعاد طبقية بل إنها تتعدى ذلك لتكون أداة أساسية ومنهلاً في تغذية الفكر الطائفي وترسيخه .

ومن الواضح أن (الطائفية) لم تتم دراستها حتى اليوم دراسة علمية توضح ولادتها كظاهرة تدميرية وكبؤر استنزافٍ اجتماعي وظلامي في المجتمعات الإنسانية منذ العهد الأموي الذي زرع أول بذور الفكر الطائفي حين قسم المجتمع الواحد والمتحد إلى (سنّي وشيعي) ، وجاء بعده الاحتلال التركي (العثماني) الذي تقوَّت (الإقليمية) في ظله وكثرت الإنقسامات العمودية عشائرياً وعائلياً مؤكدة على طائفية المذهب الديني كأساس للولاء . وكان الدور الأبرز للضغوطات الأوربية على الاحتلال العثماني تحت مسمى (حماية حقوق الأقليات المسيحية) ليتم تصنيف الطوائف (رسمياً) في الدواوين العثمانية بين (مسلمين وطوائف) حيث كان استخدام كلمة (طوائف) لديهم تعني الأقليات المسيحية حصراً ، وبعدها اصدر السلطان العثماني نظامه الجديد باسم (نظام المِلل) الذي منح بموجبه امتيازات محددة للمواطنين المسيحيين (الأقلية) معتبراً أن ذلك تفاهم مع الدول الغربية كمظهر من مظاهر التسامح مع غير المسلمين .

وفي إطار هذه النظرة العثمانية إلى تقسيم المجتمع بين مسلمين ومسيحيين نشأت رعاية دولية رسمياً للأقليات تجلى وضوحها في (جبل لبنان) على شكل (متصرفية) حاكمة يديرها متصرف غير مسلم يتم تعيينه من السلطان العثماني بالاتفاق المسبق مع سبع دول أوربية في تلك المرحلة الممتدة بين 1860 - 1914 حين تم اسقاط السلطنة العثمانية حيث ألغت حكومة (الترقي) التركية مرسوم (المتصرفية) في جبل لبنان . إلا أن (الفكر الطائفي) كان قد استقر وتعزز بعد ترسيخ توزيع المناصب كحصص بين الطوائف المختلفة في لبنان . ولما جاءت فرنسا إلى لبنان وسورية كقوة انتداب دولية عممت المفهوم الطائفي وخاصة في لبنان وبات لايقتصر على المسيحيين وحدهم بل يشمل المسلمين بكافة مذاهبهم أيضاً وصار لكل طائفة حصة تتولاها كأقلية تتعامل معها حكومة الانتداب كمجموع من الطوائف تشكل كل طائفة منها (أقلية) ، لكن الوضع في سورية كان مناقضاً ومختلفاً لكل ما يجري في لبنان حيث كان السوريون يعتبرون الشهيد الحقيقي لاينتسب للطائفة بقدر انتسابه للوطن وشهادته في مقاومة الاحتلال إنما هي من أجل سورية الوطن وليس من أجل الطائفة .

وتاريخياً يظهر أن انحسار المد القومي ، فكرياً وسياسياً ، انما كان نتيجة التراجع النفسي الذي يمارسه الطائفيون في لبنان وفي غير لبنان لأن مصالحهم تجد ديمومتها في الإبقاء على الممارسة الطائفية لوقف التطور الاجتماعي ولمنع أي فكر تنويري من التسلل إلى وجدان الناس عن طريق فرض التعامل الطائفي كقاعدة فعلية مع الوطن والمواطن .

ونتيجة الممارسات الطائفية التي امتدت إلى كل حكومات الأمصار في المنطقة ، حصل انشطار في فكر المجتمعات التي اختارت أبناؤها نوعاً من التحديثية السطحية لاتعتمد سوى الاغتناء عن طريق السمسرة ولا ترتكز على جذور تنويرية ، وذهب فريق إلى قومية عربية متطرفة أدت إلى أصولية تدميرية تُوهِمُ بأنها تربطهم بقيم الأصالة التي تربط بين العروبة والإسلام الذي لم يُبقوا منه شيئاً دينياً سوى القتل والتدمير .

إن العمل على محاصرة الفكر الطائفي لايمكن نجاحه إلا بالتمسك بالفكر التنويري الأصيل والمتجدد والتمسك بجذوره الحضارية التي أعطت العالم تنويرها في الأبجدية والموسيقى ولوَّنت له فكره بألوان التعايش الإنساني والحضاري المتجدد والعريق . 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

رائعة من روائع/ابن سورية/للشاعر /د جمال إسماعيل الجمهورية العربية السورية

من روائع المحاكاة للثنائي / الشاعر/علي عبود المناع /والشاعر/خالد محمد إبراهيم

رائعة من روائع/ "مذاقُ الجوى"/للشاعر المتمكن/ نظام صلاح/ فلسطين